الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: جامع الرسائل **
وسئل شيخ الإسلام أبو العباس تقي الدين ابن تيمية قدس الله روحه عن رجلين تجادلا في الأحرف التي أنزلها الله على آدم فقال أحدهما: إنهما قديمة ليس لها مبتدأ وشكلها ونقطها محدث. فقال الآخر ليست بكلام الله وهي مخلوقة بشكلها ونقطها والقديم هو الله وكلامه منه بدأ وإليه يعود منزل غير مخلوق ولكنه كتب بها وسألا أيهما أصوب قولاً وأصح اعتقاداً فأجاب: الحمد لله رب العالمين. أصل هذه المسألة هو معرفة كلام الله تعالى ومذهب سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين كالأئمة الأربعة وغيرهم ما دل عليه الكتاب والسنة وهو الذي يوافق الأدلة العقلية الصريحة أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود فهو المتكلم بالقرآن والتوراة والإنجيل وغير ذلك من كلامه ليس مخلوقاً منفصلاً عنه وهو سبحانه يتكلم بمشيئته وقدرته فكلامه قائم بذاته ليس مخلوقاً بائناً عنه وهو يتكلم بمشيئته وقدرته لم يقل أحد من سلف الأمة أن كلام الله مخلوق بائن عنه ولا قال أحد منهم أن القرآن أو التوراة أو الإنجيل لازمة لذاته أزلاً وأبداً وهو لا يقدر أن يتكلم بمشيئته وقدرته ولا قالوا أن نفس ندائه لموسى أو نفس الكلمة المعينة قديمة أزلية بل قالوا لم يزل الله متكلماً إذا شاء فكلامه قديم بمعنى أنه لم يزل متكلماً إذا شاء وكلمات الله لا نهاية لها كما قال تعالى: " وقال تعالى: " وقال: " فأنكر على من قال أن الحروف مخلوقة لأنه إذا كان جنس الحروف مخلوقاً لزم أن يكون القرآن العربي والتوراة العبرية وغير ذلك مخلوقاً وهذا باطل مخالف لقول السلف والأئمة مخالف للأدلة العقلية والسمعية كما قد بسط في غير هذا الموضع. والناس قد تنازعوا في كلام الله نزاعاً كثيراً والطوائف الكبار نحو ست فرق فأبعدها عن الإسلام قول من يقول من المتفلسفة والصابئة أن كلام الله إنما هو ما يفيض على النفوس إما من العقل الفعال وإما من غيره وهؤلاء يقولون: إنما كلم الله موسى من سماء عقله أي بكلام حدث في نفسه لم يسمعه من خارج وأصل قول هؤلاء أن الأفلاك قديمة أزلية وأن الله لم يخلقها بمشيئته وقدرته في ستة أيام كما أخبرت به الأنبياء بل يقولون أن الله لا يعلم الجزئيات فلما جاءت الأنبياء بما جاؤوا به من الأمور الباهرة جعلوا يتأولون ذلك تأويلات يحرفون فيها الكلم عن مواضعه ويريدون أن يجمعوا بينها وبين أقوال سلفهم الملاحدة فقالوا مثل ذلك وهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى وهم كثيروا التناقض كقولهم أن الصفة هي الموصوف وهذه الصفة هي الأخرى فيقولون: هو عقل وعاقل ومعقول ولذيذ وملتذ ولذة وعاشق ومعشوق وعشق وقد يعبرون عن ذلك بأنه حي عالم معلوم محب محبوب ويقولون نفس العلم هو نفس المحبة وهو نفس القدرة ونفس العلم هو نفس العالم ونفس المحبة هي نفس المحبوب ويقولون أنه علة تامة في الأزل فيجب أن يقارنها معلولها في الأزل في الزمن وإن كان متقدماً عليها بالعلة لا بالزمان ويقولون إن العلة التامة ومعلولها يقترنان في الزمان ويتلازمان فلا يوجد معلول إلا بعلة تامة ولا تكون علة تامة إلا مع معلولها في الزمان ثم يعترفون بأن حوادث العالم حدثت شيئاً بعد شيء من غير أن يتجدد من المبدع الأول ما يوجب أن يصير للحوادث المتعاقبة بل حقيقة قولهم أن الحوادث حدثت بلا محدث وكذلك عدمت بعد حدوثها من غير سبب يوجب عدمها على أصلهم. وهؤلاء قابلهم طوائف من أهل الكلام ظنوا أن المؤثر التام يتراخى عنه أثره وأن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح والحوادث لها ابتداء وقد حدثت بعد أن لم تكن بدون سبب حادث ولم يهتد الفريقان للقول الوسط وهو أن المؤثر التام مستلزم أن يكون أثره عقب تأثيره التام لا مع التأثير ولا متراخياً عنه كما قال تعالى: " والقائلون بالتراخي ظنوا امتناع حوادث لا تتناهى فلزمهم أن الرب لا يمكنه فعل ذلك فالتزموا أن الرب يمتنع أن يكون لم يزل متكلماً بمشيئته ويمتنع أن يكون لم يزل قادراً على الفعل والكلام بمشيئته فافترقوا بعد ذلك منهم من قال كلامه لا يكون إلا حادثاً لأن الكلام لا يكون إلا مقدوراً مراداً وما كان كذلك لا يكون إلا حادثاً وما كان حادثاً كان مخلوقاً منفصلاً عنه لامتناع قيام الحوادث به وتسلسلها في ظنهم. ومنهم من قال: بل كلامه لا يكون إلا قائماً به وما كان قائماً به لم يكن متعلقاً بمشيئته وإرادته بل لا يكون إلا قديم العين لأنه لو كان مقدوراً مراداً لكان حادثاً فكانت الحوادث تقوم به ولو قامت به لم يسبقها ولم يخل منها وما لم يخل من الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها. ومنهم من قال: بل هو متكلم بمشيئته وقدرته لكنه يمتنع أن يكون متكلماً في الأزل أو أنه لم يزل متكلماً بمشيئته وقدرته لأن ذلك يلتزم وجود حوادث لا أول لها وذلك ممتنع. قالت هذه الطوائف: ونحن بهذا الطريق علمنا حدوث العالم فاستدللنا على حدوث الأجسام بأنها لا تخلو من الحوادث ولا تسبقها وما لم يسبق الحوادث فهو حادث ثم من هؤلاء من ظن أن هذه قضية ضرورية ولم يتفطن لإجمالها. ومنهم من تفطن للفرق بين ما لم يسبق الحوادث المحصورة المحدودة وما يسبق جنس الحوادث المتعاقبة شيئاً بعد شيء أما الأول فهو حادث بالضرورة لأن تلك الحوادث لها مبدأ معين فما لم يسبقها يكون معها أو بعدها وكلاهما حادث. وأما جنس الحوادث شيئاً بعد شيء تنازع فيه الناس فقيل أن ذلك ممتنع في الماضي والمستقبل كقول الجهم وأبي الهذيل فقال الجهم: بفناء الجنة والنار. وقال أبو الهذيل: بفناء حركات أهلهما وقيل بل هو جائز في المستقبل دون الماضي لأن الماضي دخل في الوجود دون المستقبل وهو قول كثير من طوائف النظار. وقيل بل هو جائز في الماضي والمستقبل وهذا قول أئمة أهل الملل وأئمة السنة كعبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما ممن يقول بأن الله لم يزل متكلماً إذا شاء وإن كلمات الله لا نهاية لها وهي قائمة بذاته وهو متكلم بمشيئته وقدرته. وهو أيضاً قول أئمة الفلاسفة لكن أرسطو وأتباعه مدعون ذلك في حركات الفلك ويقولون إنه قديم أزلي وخالفوا في ذلك جمهور الفلاسفة مع مخالفة الأنبياء والمرسلين وجماهير العقلاء فإنهم متفقون على أن الله خلق السموات والأرض بل هو خالق كل شيء وكل ما سوى الله مخلوق حادث كائن بعد أن لم يكن. وأن القديم الأزلي هو الله تعالى بما هو متصف به من صفات الكمال وليست صفاته خارجة عن مسمى اسمه بل من قال عبدت الله ودعوت الله فإنما عبد ذاته المتصفة بصفات الكمال التي تستحقها ويمتنع وجود ذاته بدون صفاتها اللازمة لها. ثم لما تكلم في النبوات من اتبع أرسطو كابن سينا وأمثاله ورأوا ما جاءت به الأنبياء من أخبارهم بأن الله يتكلم وأنه كلم موسى تكليماً وأنه خالق كل شيء أخذوا يحرفون كلام الأنبياء عن مواضعه فيقولون: الحدوث نوعان ذاتي وزماني ونحن نقول أن الفلك محدث الحدوث الزماني بمعنى أنه معلول وإن كان أزلياً لم يزل مع الله وقالوا: إنه مخلوق بهذا الاعتبار والكتب الإلهية أخبرت بأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام والقديم الأزلي لا يكون في أيام وقد علم بالاضطرار أن ما أخبرت به الرسل من أن الله خلق كل شيء وأنه خلق كذا إنما أرادوا بذلك أنه خلق المخلوق وأحدثه بعد أن لم يكن كما قال: " وأيضاً فكونه فاعلاً لمفعول معين مقارن له أزلاً وأبداً في صريح العقل وأيضاً فأنتم وسائر العقلاء موافقون على أن الممكن الذي لا يكون ممكناً يقبل الوجود والعدم وهو الذي جعلتموه الممكن الخاص الذي قسيمه الضروري الواجب والضروري الممتنع لا يكون إلا موجوداً تارة ومعدوماً أخرى وأن القديم الأزلي لا يكون إلا ضرورياً واجباً يمتنع عدمه وهذا مما اتفق عليه أرسطو وأتباعه حتى ابن سينا وذكره في كتبه المشهورة كالشفاء وغيره ثم تناقض فزعم أن الفلك ممكن مع كونه قديماً أزلياً ولا يزال وزعم أن الواجب بغيره القديم الأزلي الذي يمتنع عدمه يكون ممكناً يقبل الوجود والعدم وزعم أنه له ماهية غير وجوده وقد بسط الكلام على فساد قول هؤلاء وتناقضه في غير هذا الموضع. والقول الثاني للناس في كلام الله تعالى قول من يقول إن الله لم يقم به صفة من الصفات لا حياة ولا علم ولا قدرة ولا كلام ولا إرادة ولا رحمة ولا غضب ولا غير ذلك بل خلق كلاماً في غيره فذلك المخلوق هو كلامه وهذا قول الجهمية والمعتزلة. وهذا القول أيضاً مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف وهو مناقض لأقوال الأنبياء ونصوصهم وليس مع هؤلاء عن الأنبياء قول يوافق قولهم بل لهم شبه عقلية فاسدة قد بينا فسادها في غير هذا الموضع وهؤلاء زعموا أنهم يقيمون الدليل على حدوث العالم بتلك الحجج وهم لا الإسلام نصروا ولا لأعدائه كسروا. والقول الثالث قول من يقول أنه يتكلم بغير مشيئته وقدرته بكلام قائم بذاته أزلاً وأبداً وهؤلاء موافقون لمن قبلهم في أصل قولهم لكن قالوا الرب يقوم به الصفات ولا يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الصفات الاختيارية. وأول من اشتهر عنه أنه قال هذا القول في الإسلام عبد الله بن سعيد بن كلاب ثم افترق موافقوه فمنهم من قال ذلك الكلام معنى واحد هو الأمر بكل مأمور والنهي عن كل محظور والخبر عن كل مخبر عنه إن عبر عنه بالعربية كان قرآناً وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة وقالوا معنى القرآن والتوراة والإنجيل واحد ومعنى آية الكرسي هو معنى آية الدين وقالوا الأمر والنهي والخبر صفات الكلام لا أنواع له ومن محققيهم من جعل المعنى يعود إلى الخبر والخبر يعود إلى العلم. وجمهور العقلاء يقولون قول هؤلاء معلوم الفساد بالضرورة وهؤلاء يقولون تكليمه لموسى ليس إلا خلق إدراك يفهم به موسى ذلك المعنى فقيل لهم: أفهم كل الكلام أم بعضه إن كان فهمه كله فقد علم علم الله وإن كان فهم بعضه فقد تبعض وعندهم كلام الله لا يتبعض ولا يتعدد وقيل لهم: لقد فرق الله بين تكليمه لموسى وإيحائه لغيره وعلى أصلكم لا فرق وقيل لهم: قد كفر الله من جعل القرآن العربي قول البشر وقد جعله تارة قول رسول من البشر وتارة قول رسول من الملائكة فقال في موضع: " والطائفة الأخرى التي وافقت ابن كلاب على أن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته قالت بل الكلام القديم هو حروف أو حروف وأصوات لازمة لذات الرب أزلاً وأبداً لا يتكلم بها بمشيئته وقدرته ولا يتكلم بها شيئاً بعد شيء ولا يفرق هؤلاء بين جنس الحروف وجنس الكلام وبين عين الحروف قديمة أزلية وهذا أيضاً مما يقول جمهور العقلاء أنه معلوم الفساد بالضرورة فإن الحروف المتعاقبة شيئاً بعد شيء يمتنع أن يكون كل منها قديماً أزلياً وإن كان جنسها قديماً لإمكان وجود كلمات لا نهاية لها وحروف متعاقبة لا نهاية لها وامتناع كون كل منها قديماً أزلياً فإن المسبوق بغيره لا يكون أزلياً وقد فرق بعضهم بين وجودها وماهيتها فقال: الترتيب في ماهيتها لا في وجودها وبطلان هذا القول معلوم بالاضطرار لمن تدبره فإن ماهية الكلام هو حروف لا يكون شيئاً بعد شيء والصوت لا يكون إلا شيئاً بعد شيء فامتنع أن يكون وجود الماهية المعينة أزلياً متقدماً عليها به مع أن الفرق بينهما لو قدر الفرق بينهما ويلزم من هذين ثم من هؤلاء من يزعم أن ذلك القديم هو ما يسمع من العباد من الأصوات بالقرآن والتوراة والإنجيل أو بعض ذلك وكان أظهر فساداً مما قبله فإنه يعلم بالضرورة حدوث أصوات العباد. وطائفة خامسة قالت: بل الله يتكلم بمشيئته وقدرته بالقرآن العربي وغيره لكن لم يكن يمكنه أن يتكلم بمشيئته في الأزل لامتناع حوادث لا أولها وهؤلاء جعلوا الرب في الأزل غير قادر على الكلام بمشيئته ولا على الفعل كما فعله أولئك. ثم جعلوا الفعل والكلام ممكناً مقدوراً من غير تجدد شيء أوجب القدرة والإمكان كما قال أولئك في المفعولات المنفصلة. وأما السلف فقالوا: لم يزل الله متكلماً إذا شاء وإن الكلام صفة كمال ومن يتكلم أكمل ممن لا يتكلم كما أن من يعلم ويقدر أكمل ممن لا يعلم ولا يقدر ومن يتكلم بمشيئته وقدرته ممن يكون الكلام لازماً لذاته ليس عليه قدرة ولا له فيه مشيئته والكمال إنما يكون بالصفات القائمة بالموصوف لا بالأمور المباينة له ولا يكون الموصوف متكلماً عالماً قادراً إلا بما يقوم به من الكلام والعلم والقدرة وإذا كان كذلك فمن لم يزل موصوفاً بصفات الكمال أكمل ممن حدثت له بعد أن لم يكن متصفاً بها لو كان حدوثها ممكناً فكيف إذا كان ممتنعاً فتبين أن الرب لم يزل ولا يزال موصوفاً بصفات الكمال منعوتاً بنعوت الجلال ومن أجلها الكلام فلم يزل متكلماً إذا شاء ولا يزال كذلك وهو يتكلم إذا شاء بالعربية كما تكلم بالقرآن العربي وما تكلم الله به فهو قائم به ليس مخلوقاً منفصلاً عنه فلا تكون الحروف التي هي مباني أسماء الله الحسنى وكتبه المنزلة مخلوقة لأن الله تكلم بها.
|